[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على
جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري نهاد سيريس
لنتفق بأن الرواية ليست جنسًا أدبيًا ينتج عن الحماسة بل إنها تصدر عن عقل بارد ويحتاج الروائي إلى مؤخرة صامدة وصابرة ليكتب عمله. لم تدفعني الأحداث التي اشتعلت في سورية قبل خمس سنين إلى الاشتعال رغبةً بكتابة عمل روائي فوري تكون الأحداث موضوعه الرئيسي. فلنتصور أنني بدأت بكتابة رواية في السنة الأولى من اشتعال الأحداث فسرعان ما سأجد نفسي متخلفًا عن الواقع بعد ستة أشهر أو سنة من الكتابة. لا ضرورة إذن للتسرع لكي لا يضيع الجوهري الذي يخبئه الزمن ولا يظهره إلا بعد حين. ليف تولستوي لم يبدأ بكتابة "الحرب والسلام" إلا بعد ما يقارب القرن من اجتياح بونابرت لروسيا وكذلك فعلت مارغريت ميتشيل في كتابتها لـ "ذهب مع الريح" وهناك أمثلة مشابهة كثيرة. بالنسبة لي فقد كتبت "رياح الشمال" بعد سبعين عامًا من انتهاء الحرب العالمية الأولى وكذلك "خان الحرير" بعد أربعين عامًا من زمن الأحداث. ماذا يمكن أن يكتب الروائي في روايته التي قد تدور عن هذه الحرب القبيحة التي تجري في سورية إذن؟ أي شيء يكتبه سيظهر وكأنه مغامرة متسرعة في زمن الدم والخراب. مهما كتب الروائي سيكون أقل بكثير مما يعرفه الناس وعايشوه هناك في المدن والقرى التي تقصف أو ما يسمعونه في نشرات الأخبار، أي أن الرواية ستفقد أهم خصائصها وهي أن تستكشف وتروي أشياء يجد القارئ متعة في التعرف إليها.
قد يكتب الروائي عملًا جديدًا لا علاقة مباشرة له بالأحداث. لقد حاولتُ ولكنني لم أستطع. لم أستطع تصور المدينة التي اعتدتُ الكتابة عنها في الوقت الذي تقصف فيه ويقتل سكانها أو يتشردون. لم أستطع تصور البيت الذي يعيش فيه البطل في حلب بينما كل البيوت والأحياء تقصف لتدمّر. إذا كان على الروائي أن يكتب عن الديكتاتور الذي سبب كل هذا الخراب فقد كان عليه أن يكتب ذلك قبل الأحداث إن لم يكن بعدها. لقد كتبت "الصمت والصخب" عن الديكتاتور وحال المدينة خلال حكمه قبل الأحداث بعشر سنين. وكذلك كتبت في "الكوميديا الفلاحية" عن تسلط الأغراب البرابرة على المدينة والدمار الذي يحدثونه بها قبل الأحداث بعشرين عامًا.
إن لم يستطع الروائي أن يكتب عن الأحداث أو عن مسببيها قبل حدوثها فعليه الانتظار ريثما تتغير الظروف أو، وهذا اقتراح، أن يكتب عن المستقبل وأقصد عما سيأتي بعد الحرب فيعطي روايته إمكانية الاستشراف.
ولكن الروائي لا يستطيع أن يتوقف عن الكتابة ويصبح عاطلًا أو مجرد متفرج على بلده وهو يحترق. لقد حاولت، كما قلت، الكتابة عن أمر ما ولكنني لم أستطع حتى أنني شعرت بأنني أخون بلدي وأهل بلدي حين فكرت بكتابة رواية عن مريض نفسي ما أو الكتابة عن حالة اجتماعية حلبية أخرى غير "بنات العشرة" كما فعلت في رواية "حالة شغف". لقد اكتشفت في نفسي المقدرة على الحديث إلى الآخرين بشكل مقبول عن أزمة بلدي، وهذا ما أفعله الآن بالإضافة الى كتابة المقالات وبعض اللوحات ومسرحية عن اللاجئين، أما الكتابة الروائية الشاملة عن الحرب فيمكنها أن تنتظر ريثما تتوقف وتتغير الظروف.
إن حربًا مدمرة مثل هذه، أهلكت القرى والمدن وشتتت الناس، سوف تؤدي إلى تغير كبير في المجتمع والسكان والعقائد والقناعات وطرق العيش. حتى اللغة سوف يطرأ عليها تغيير، كما سيتغير الأدب والفن عمومًا وستتغير الأفكار وأساليب التعبير. بعد حرب مثل هذه سيظهر جيل جديد من القراء بذائقة مختلفة كما سيظهر نمط جديد من الروائيين سيكتب عن هذا الجنون الذي حدث يومًا في الماضي.
*************
نهاد سيريس في سطور:
ولد الكاتب والروائي السوري نهاد سيريس في مدينة حلب عام 1950.
ظهرت ميوله الأدبية منذ الصغر فراح يؤلف مسرحيات من فصل واحد لتقدم على خشبة المسرح المدرسي. سافر إلى بلغاريا لدراسة الهندسة المدنية فحصل على الماجستير عام 1976، ثم عاد إلى بلاده ليعمل مهندسًا في مكتبه الخاص.
بعد مرور ما يقارب العام على اندلاع الثورة السورية قرر "سيريس" الخروج من سوريا، خاصة بعد معايتنه للاغتيالات المتكررة التي كانت تستهدف المثقفين، وهو يقيم منذ العام 2013 في برلين. يقول" "لم يعد ممكنًا أن أبقى وأصمت، وكان عليّ الصمت للبقاء في سوريا. ولأنه لا يمكنني حمل السلاح أو الدعوة إلى حمله، فقد رحلت. أنا مع التغيير لكني أخاف من الثورة".
بدأ الكتابة في بداية الثمانينات وكان إنتاجه الأدبي متنوعًا، حيث كتب في الرواية والمسرح والقصة القصيرة ثم اتجه لكتابة الدراما التلفزيونية.
يعتبر أول من أشاع اللهجة الحلبية في الأعمال التلفزيونية المحلية، ويحرص على الكتابة عن مدينة حلب وتاريخها وطباع أهلها وظاهراتها الإجتماعية، ويعد مسلسله "خان الحرير" بجزئيه للمخرج هيثم حقي، والذي صور وعرض الجزء الأول منه في بداية العام 1996 من أهم ما ما قدمته الدراما السورية في العقود الثلاثة الأخيرة. وقد ترجم المسلسل إلى الإنكليزية والفارسية والألمانية.
فاز نهاد سيريس عام 2013 بجائزة "فريدريش روكرت" الألمانية، بعدما رُشح للقائمة القصيرة مع ثلاثة كتّاب سوريين آخرين هم: فوّاز حدّاد، وسمر يزك وروزا ياسين حسن.
وكان أن صدرت روايته بالألمانية "الصمت والصخب" عام 2008 باللغة الألمانية عن "دار لينوس" Lenos السويسرية ، والتي كانت قد صدرت عام 2004 عن "دار الآداب" في بيروت، ومنعت النظام السوري تداولها في سوريا. وهي ترصد أربعًا وعشرين ساعة من حياة بطلها (فتحي شين) الذي تعرض لقمع السلطات لأنه رفض الاشتراك في الدعاية للزعيم ففرض عليه الصمت. الصمت هو صمت البطل بينما الصخب هو صخب الشارع الذي يهتف للديكتاتور.
وقد آمن "سيريس" أن "الأدب دائمًا وسيلة للتغيير"، مما كلفه مشاكل مع النظام السوري، ففي التسعينات كتب العمل التلفزيوني "خان الحرير" الذي استعرض الفترة التاريخية قبل وبعد الوحدة مع مصر، فكان أول صدام له مع السلطة، ومُنع على أثره من الكتابة للتلفزيون. وبحسب ما كتبت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية، فإن رؤية صاحب "الكوميديا الفلاحية" للطغيان مميزة إلى درجة تصنيفها مع نظرة أورويل وهاكسلي وماركيز.
ويرى النقاد أن "سيريس"، "يوظف الرمزية في العمل الروائي، ويعتبرها شكلًا من أشكال التجريد لاستعراض الواقع من خلال الماضي، مستلهمًا تجربة أدباء أوروبيين على غرار الكاتب الألماني توماس مان الذي تحدث في روايته "الموت في البندقية" عن البرجوازية في ألمانيا دون أن يأتي على ذكرها بشكل مباشر".
أعماله الروائية الصادرة:
- "السرطان"، دار محمد علي الحامي، تونس 1987.
- "رياح الشمال – سوق الصغير"، (الجزء الأول من ثلاثية رياح الشمال)، دار الحوار، اللاذقية 1989.
- "الكوميديا الفلاحية"، إصدار خاص، دمشق 1990.
- "رياح الشمال 1917"، (الجزء الثاني من ثلاثية رياح الشمال)، دار الإنماء الحضاري، حلب 1993.
- "حالة شغف"، دار عطية، بيروت، 1998.
- "خان الحرير"، (الرواية الأصل للمسلسل التلفزيوني الذي حمل نفس الاسم)، صدرت عام 2004.
- "الصمت والصخب"، دار الآداب، بيروت 2004.
صدرت بعض روايات نهاد سيريس في أكثر من طبعة في حلب ودمشق وبيروت وتونس، كما ترجم بعضها للانكليزية والفرنسية والألمانية.